الصفحات

ننشر في هذا الموقع أشعار الشاعر الكبير عصام ملكي

كلمة من الشاعر الياس خليل لصديقه الشاعر عصام ملكي

عصام ملكي شاعر وضَّاح الثنايا، متوقِّد الفؤاد، فكِه الأخلاق، لطيف الملكة، بارع الظرف، حاضر البديهة. يطوف الشعر من عينيه وشفتيه، فيبادرك ببيت لاذع أو ردَّة ذائعة، ولا ينفكُّ يحاورك بصفاء ذهن ورهافة إحساس وسريع إدراك. يا له من شاعر صادق الحدس، شاهد اللبِّ، ثقيف رهيف، يحسن الإشارة بوجيز العبارة وتكفيه اللمحة، ويستغني بالرمز عن صريح الإبانة!
توسَّمته من معارض لفظه ومطاوي كلامه، واستشففته من مثاني أبياته، فتمثَّل لي شاعراً فيَّاض القريحة، أريباً، لبيباً، مستحكم القافية راجح الكفَّة، ولاَّج أغوار المعاني والمضامين. خَبرَ الغربة في عزِّها ومزِّها، ورصدَ تقلُّبات دهره في حلوها ومرِّها وظلَّ، رغم ذلك، يعاقر خمرة الشعر مغامراً مسامراً لا يغمض له جفن ولا تفترُّ همَّة. يرتشف عصامنا الكلام ارتشافاً ويشرب نخب المنبر مدندِناً بكؤوس خصوصيَّته، وقارعاً أقداح المطالع الشعريَّة بفورة حماس تستقي فم الإبريق عتيقاً مطيَّباً بخوابي العفويَّة، وقد خالطها شيب الزمن فاسترخت كما يسترخي السكران على أريكة قصائد تعتَعَتْها النشوة فعربدت على لسان الشاعر نقداً وهجاء ثمَّ استحالت مدائح غرَّاء يستحقُّها من كملت صفاته وتماسكت حياته قلباً وقالباً، حضوراً وظهوراً...
تحدَّى عصام ملكي العمر المهزول، فواظب على المواصلة والمجالسة، وظلَّ عشير رفقة وأنيس منادمة وقرين سهر. يصطحب أرباب الدفوف ويقارع فرسان السيوف أليفاً، شريفاً، لا يهادن خصماً منبريّاً ولا يداور بل يدور بقوافيه ونوادره على كرام الضيوف، مستبسلاً في الدفاع عن فكرة أو قضيَّة أو مسألة تهمُّ سامعيه. 
التقيتُه في أستراليا وقد أضرم حبُّ لبنان مشاعره، واستوقد الوجد ضلوعه، وبرى الشوق أقلامه فجاد بالقصائد الوطنيَّة العصماء التي أسرت فؤاده وشغفت روحه في صبوة دواوينه الملكيَّة العامرة بغزله ومناسباته وسائر أنواع الشعر وأغراضه. وها هو ديوانه الجديد خير شاهد على براعته وطول باعه في النظم والإجادة. أتقنَه تبويباً وتصويباً وضمَّنه لواعجه وتباريحه وتجارب أيَّامه فبات يتوهَّج بحرارة الشوق وملتهب الضلوع.
تشدُّ عصا الترحال في مجاهل ديوانه الجديد فتطيب نفسك وتطالعك روائع الشعر كأنَّها صبيَّات حسان يصافحْنَك ويأخذنَ بيدك إلى مشارف حديقة عابقة بالألوان والأفنان، ومضمَّخة بطِيب الذكريات واللفتات الذكيَّة فتغدو مفتون العقل والقلب بمبتكرات نادرات واستراحات فكريَّة حالمات. ولا يبقى أمامك وأنت في ذروة الدهشة والانشغال إلاَّ أن تُكمل رحلتك مقبلاً بوجه صَبوح وصدر مشروح ويخالجك الانبهار، فتترصَّد سوانح الفرص ويستفزُّك الاندفاع، ولا يسعك إلاَّ أن تهرول مستسلماً لكلمة تهزُّك أو فكرة تراودك أو حكمة تأسرك فتغتبط ويخصب زرعك ويدرّ ضرع أمانيك.
وهكذا تزداد شراهة إلى الأجمل ونهماً إلى الأبدع حتَّى تمسي متهافتاً على القراءة وأنت حريص على المتابعة خشية أن تفوتك كلمة أو تغفل عنك خاطرة استتبعتها نادرة أو بادرة من بوادر عصام ملكي المميّزة.
شاعرنا عصام معطاء، كريم، لا يتخشَّن في كلامه إلاَّ دفاعاً عن كرامة أو تحصيناً لشرف أو استيفاء لحوار. الاحتراب الزجليُّ في الاغتراب ليس عند صاحب هذا الديوان انتقاماً أو اختصاماً، إنَّما هو معركة شريفة بأيدٍ نظيفة تخوض حرب المدارك وتنتصر في أعظم المعارك. من هنا تبرز المجاهرة والمصارحة لدى صديقنا عصام فتراه مقداماً، همَّاماً، يحاكم ويحاسب ويحضِّر الردَّ المناسب ذوداً عن حياض وصوناً لرياض. يُقبل ويُدبر، يراجم ويهاجم، يُقدِم ويُحجم، ويبقى في كلِّ ذلك كريم الأصل، حاسم الوصل والفصل...
عصام ملكي حسيب نسيب في ديوانه، راسخ في جذوره، ثابت في مواقفه. قصائده جليلة القدر، بعيدة المرتقى. وما أبرعه حين تزخر قوافيه وتزدحم معانيه، فيتبوَّأ سدَّة المنابر ويتسنَّم قمم الاحتفالات عصاميّاً، عظاميّاً بصوت جهير، وفنّ شهير. وغنيٌّ عن البيان أنَّ ما يعمر به ديوانه الملكي تتلقَّفه القلوب وتتواشحه الأسماع وتختزنه العقول لتلهج به الألسن في أعنف المساجلات وأشجع المسايفات. 

ديوان الملكي بعيد المرمى، رفيع المصعد، جليل المطالب والمساعي. تجري فيه البديهة سلاسة وتمتدُّ غرراً بيِّنات. وإذا ما استحوذ علينا شغف المطالعة تطالعنا الأبَّهة في منعرجات القصائد فخيمة رخيمة تنساب انسياب الينابيع بعفو خاطر ومتانة تركيب وفصاحة مفردات تنتظم الوزن والقافية كأنَّها قلائد الجمان في بهرجة حفل أو مهرجان...
وهل تسألون بعدُ عن هذا الشاعر الطريف الظريف؟ ما أشجعه وما ألذعه حين يقول:
قلتْ لأنا بدِّي شعب فهمـان
الديُّـــــوس لا يبْرُم حواليِّي
بدْعس أنا عالمال والتيجان
وبلْبس بشر أوقات بجْـريِّي.
ولا غروَ أنَّ هذه الصراحة المؤلمة قد لا تُرضي الكثيرين، لكنَّها تنمُّ عن واقعيَّة الشاعر الذي لا يغمز إلاَّ من قناة مَن يرشقه بسهام القدح والذمّ، وربَّما كان عصام في طبعه أشبه بالورد يجود بعطره على أحبَّائه ويوفِّر خشونة شوكِه للجُناة القُساة. ومهما يكن من أمر فهذا هو عصام ملكي تقبله أو ترفضه، لكنَّه يبقى شاعراً ذائع الشهرة متوثِّب المهرة على فيض من الشعر وبياض عرق الكروم:
مربَّى عــــا إيدي سهَر أشكال مـع ألوان
ومنشان إمحي الضجَر برْكض عالقرايِه
وكاسي بإيدي صرت عــم إحسْبو إنسان
وما ابيضّ وجــــه العرق بالمَيّ لولايـي.
يُحبُّ عصام ويصدق في حبِّه لكنَّه لا يستسلم لعواطفه بل يحاسب ويقاضي حبيبته على مبدإ الأخذ والعطاء المتبادَل، فإذا به يقول:
حاجي للأخــــــد إيدِك تمدِّي
معِك حبَّيتْ غيِّر إتِّجــــــاهي
لأنُّو بتاخدي ومش عم تردِّي
بْكُون بْلا عقل وحْيــــاة ربِّي
إذا شي يــوم عرتِك إنتباهي.
عصام ملكي صحيح النسب في الشعر، حميم الصلة بالإبداع، عالي الذروة في الحبك والسبك، عريض الجاه في وهجه ونهجه. ينظم فيسحر الأسماع ويمتلك الألباب. صقر المنابر وريشة المحابر. مستفيض الجناح بمجالٍ لا يُستباح. شديد الشكيمة، قويُّ العزيمة. إنَّه شاعر لبنان في الغُربة وشاعر الغربة في لبنان.
                                       
الشاعر الياس خليل

0 comments:

إرسال تعليق